التنكيت على كتاب " سجع الكُهّان " للإمام الإبراهيمي ..1
أبو المعالي الظاهري
بسم الله توكلنا على الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله تعالى ، وبعدُ :
هذه سلسلة في التنكيت على كتاب سجع
الكهان لكاهن الحيّ العلاّمة الحَبر الإمام الأديب محمد البشير الإبراهيمي رحمه
الله . والله تعالى أسألُ السداد والإعانة .
* التعريـــــــف بالكتــــــــــــــــــــــــــــاب :
هو سلسلة مقالات منشورة في جريدة
البصائر مِن العدد 69 من
جريدة «البصائر»، 28 فيفري سنة 1949 إلى العدد 88 من جريدة «البصائر»، 25 جويلية
سنة 1949. وهو منشور ضمن عيون البصائر من الآثار الجزء 3 من ص 518 إلى 535 .
بعثَ فيه المؤلف بعبقرّيته النادرة
وحسِّ الطرفة الباعثة على لمعة النكتة البادرة ، فنّا مات منذ عصر الجاهلية إلى
يومنا هذا ، وهو استعمالُ طريقة الكهان في الجاهلية في الغمغمة والزمزمة والإشارة
الخفية والعبارة المثقلة بالأسجاع والرموز التي تحتاج إلى فك والألغاز التي لا بد
فيها من كد ذهن وإعمال فكرة في الوصول إلى المراد بها .. وكذلك كانّ الكهان في
الجاهلية يفعلون ..
كانَ الكهان في الجاهلية بمنزلة
الأمراء والعلماء والفقهاء والقضاة والشعراء والأدباء ، يلجأ إليهم الناس عند
الخصومات والمنازعات والمنافرات فيخضع الناس لهم ويرضون بأحكامهم ولا يُخالفونهم ،
وقد نسج الناس عنهم الأساطير وبالغوا في أوصافهم وأخبارهم حتى ذكروا عن شقِّ
الكاهن أنه ما سمي شقّا إلا أنه شقّ إنسان ذو عين واحدة ويد واحدة ورجل واحدة
!!وخبره في رؤيا ربيعة بن نصر ملأت سواد الصفحات !! وقد كانَ الكهان يَلجؤون إلى
استعمال هذه الطريقة في الكلام بالأسجاع والإغراب بغرائب الأراجيز ليزداد الناس
لهم تعظيما لأنّهم مولعون بغريب الألفاظ والمباني ميّالون إلى ما يُستبهم ويستغلق
عليهم من المعاني !! ولولاَ ذاك ما وصلتنا بعض أراجيزهم وأسجاعهم .. ثمَّ جَاءَ
الإسلامُ فأبطل الكهانة وجاء بالبيان الذي انفلق من الفرقان بين الحق والباطل ،
وصارت الكهانة شرعة الشيطان التي قيل عنها :
إسنادُها حزبُ إبليسَ اللعينَ كما **
متونها أقبحُ المنقولِ من كَلِمِ
ولم يبقَ منها غير تلك الطريقةِ
الغريبة في التعمية التي تسحرُ العقول والألباب ، لتخفي عنهم بعض القصد المراد في
الباب ، وتجعل من الإشارة اللّامحة بديلا عن العبارة اللّاذعة الجامحة ، وتصيّر من
الرمز بيانا أفصح من التصريح لأنه واقعٌ على أرض غلبَ عليها كلّ قبيح ..وقد كان
كهّان الجاهلية يسترون عيبَ الكذب الذي قد تكذبهم به أقرانهم من المردة والشياطين
بالأسجاع التي ينثرونها ، ويعمدون إلى حجب المقاصد الخفيات وراء الأراجيز التي
ينشدونها ..تملؤها الغمغمة التي سمتها الإجمال فإن وقع ما قالوه حقا قالوا ألم نقل
لكم ؟ وإن كان باطلا تخلّصوا من تبعاتهم وراء الدلالات العريضة التي تسعها الأسجاع
والأراجيز المعّمات ..
ولكن ما ذا صنعَ كاهن الحيّ
الإبراهيمي ؟ كتبَ هذه الفصول في هذا الكتاب عقِبَ النكسة العربية في أرضِ فلسطين
حين انهزمت الجيوش العربية ضد دولة اليهود في سقوط آخر الألوية في السابع من يناير
من سنة 1949 فكانت نكسة كبرى على العرب والمسلمين في القضية الفلسطينية ، وقد تأثر
الإبراهيمي كغيره تأثرا بالغا بتلك المأساة ، مع جراحات الجزائر التي كانت بعد
مجازر الثامن ماي 1945 ، وما يلقاه الحزائريون تحت وطأة الشيطان الفرنسي !! فجاءت
هذه الفصول من وحيه كأنها عزاءٌ عن النكسة بالأراجيز والأسجاع التي تشفي في نفس
المتأدب الأوجاع ، خاصة وأن نفسية الإبراهيمي مُرَكبّة على شفاء النفس بالأسجاع
حتّى أنه قال عن نفسه في كتاب رحلة كراتشي مع النادل الذي كان يكلمه على الهاتف
بلغة الهند التي لا يفهمها فقال له شافيا لنفسه منه : [ وقد حملني الغضب مرة على أن
ألقيت على واحد من مخاطبي في التيليفون خطبة عربية أنيقة، قلت له يا سيدي لست من
العظماء حتى تتعب نفسك بهذه المراسيم، ولو كنت منهم لكان لي ترجمان عيناه بالشرر
ترجمان .... وكانت هذه الأسجاع شفاء لغيظي، ولكنني كتمتها على الجماعة لأنني ما
زلت في يومي الثالث ..] ..
ولأنّ في هذه الفصول من التقريع
الشديد لحكام العرب إذ ذاك عن تخاذلهم ، وتبكيتُ للشعوب عن تهالكهم ، ولأنها
سُخرية بلغت حدّ المرارة كالعقاق من الماء شديدِ الملوحة من الأوضاع التي آل إليها
حالُ العرب والمسلمين ، ونقد لاذعٌ بألفاظِِ جامحةِِ لأهل التمائم والعمائم
والعروش والقروش ..استعملَ كاهنُ الحيّ هذه الطريقة في الإنشاء الغريب المُطرب
ليسلكَ من طرفِِ خفي العتب على المتأدبين الذين لا عناية لهم بالغريب حتى صار
بينهم غريبا مُريبا ، وفي ذلك يقول ساخرا [ وفي هذه الفصول من لبوس الألفاظ ما
يعده المتخلفون من كتابنا غريبا، وما غرابته في أذواقهم، إلا كغربة الأعلاق
النفيسة في أسواقهم؛ ولو حفظوه ووعوا معانيه وأقروه في مواضعه من كلامهم، وأحسنوا
إجراءه في ألسنتهم وأقلامهم، لأحيوه فحيوا به، ولأصبح مأنوسا لا غريبا، وأصبحوا به
من لغتهم قريبا؛ ولكن أعياهم الإحسان، فعفروا في وجوه الحسان، وعجزوا في جني
الثمرة عن الهصر، فرضوا من اللغة بما يباع في "سوق العصر" ] .
وسأعمد في هذا التنكيت إلى فكّ
العبارات نفوذا إلى المقصود ، وشرح الإشارة بالبيان الذي يُذوّب به ما استعماه
الجمود والله ربنا المعين ..
لا تتردد اترك تعليقا أو استفسارا أو شاركنا رأيك
Enregistrer un commentaire