#في_ظِلال_رمضان ..02
سورة يوسف / مدار صلاح الحياة ..
إذا تأملنا في أمر الدنيا وما به يصلح حال الإنسان فيها ، وجدناه لا يكاد يخرج عن ثلاثة أمور ، دونها يكونُ المرء في اختلال واضطراب حالِ حياته كلها ، وتتمثل هذه الثلاث في : نفسِِ طيّعةِِ مُنضبطة حازمةِِ تسلك مسالكَ الرشاد وتبتعد عن مهاوي الردى ، وألفةِِ أو صحبةِِ أو عصبةِِ يجتمعُ معها القلب في الهمّ والغاية ، ومادَّةِِ أو مالِِ يتبلغُ بها الفردُ أو الجماعة إلى ما يقصدون إليه من أمر دينِِ أو دنيا ..
وقد جاءت سورة يوسف
عليه السلام لتبين هذه الأمور الثلاثة بيانا تاما ، فبدأت بأمر صلاح النفس وسموّها
وعلو همتها ، حتى تكون النفس طيّعة منضبطة تسلك مسالك الهمة العالية وتبتعد عن كل
مسالك السوء ، وقد ظهر هذا في أعلى صور مقابلةِ النفس لداعي المعصية والهوان ، في
قضية عفّة يوسف عليه السلام ورؤيته برهان ربه الذي عصمه به من كيدِ داعيةِ السقوط
في حمأة المعصية ، ولا بدّ أن أشيرَ ههنا إلى ملحظ مهم جدا وهو ..
العبودية والاسترقاق في
عرف الناس منذ كان الاسترقاق هي أن يتحول الانسان إلى مال ، أي إلى كونه قيمة
مالية ، يباع العبد ويشرى ويوهب ويكرى ، وهو بيّن في كتب الفقهاء في اعتبار العبد
مالا من الأموال ..وقد كان يوسف عليه السلام سيدا سليل الأنبياء ثم جار عليه الظلم
فحوّله إلى مال بالرقّ الذي وقع فيه ، ولما بلغ أشده واستوى وهو لا يزال عبدا حدث
له ما حدث مع امرأة العزيز ، وهو مملوك عندها ، وهي كانت تمثلّ أيضا صورة المال
حالِ طغيانه بالسلطان والجاه ، ولكنها تجردت عن سلطة المالِ فبقيت ضميرا يشار إليه
إشارة الأشياء فقط [ وراودته اللتي ..] أما يوسف عليه السلام فقد كانَ مالا ونفسا
معا ، في مواجهة المال والنفس والسلطان والجاه .. فلما رآى برهان ربه وصرف الله
عنه كيدها .. انتصرَ المالُ الذي كانَ دراهم معدودة على السلطان والجاه العظيمين
.. ليعلم الشاب المستضعف بعد ذلك أنّ سياسةَ النفس للطاعة والنجابة وحتى تكونَ
أهلا لإصلاح الحياة وتأخذ موضعها منها ينبغي عليها أن تنضبط أمام الفتن التي
عرضتها امرأة العزيز من حسن وسلطان وجاه ومال ، وإن كانتْ نفس الشاب إذ ذاك فيما
يبدو نفسا صغيرة لا تملك إلا الروح التي في الجسد فقط ..
وأما الصحبة والألفة
والعصبة التي يتوصل بها إلى الغاية وحمل الهمّ ، فقد بيّنت السورة أن هذه الألفة
ينبغي أن ترتفع عن كل عصبية نسب أو قرب ، فهؤلاء إخوة يوسف وهم بنو أبيه كادوا له
وجرّوا عليه الاسترقاق والسجن والمحن ، ولم تقدهم أخوتهم له إلى العون على إقامة
شرع الله تعالى .. بينما صلحت الألفة والصحبة التي بُنيت على أساس متين هو العلمُ
، فقد تكونتْ صحبة يوسف مع الملك بسببِِ متين عظيم هو العلم بتأويل الرؤيا ،
ومعرفة منزلة وقدر العلم الذي عند يوسف عليه السلام .. ولهذا من أراد أن تكون له
عصبة وألفة تحمل همّه وغايته ، فليبنها على أساسِِ من العلم متين ، وأن ترتفع عن
كل عصبية وقرابة وهوى ..
وأما الثالثة وهي
المادة المُبلّغة للمقصد فقد ظهرت جليا في سياسة المال وتدبيره على يد يوسف عليه
السلام ، وذلك بناء على العدل والاقتصاد في النفقة وادخار فضول الحاجة ، والنفقة
الراشدة على وفق ما يقتضيه الحال .. ثمَّ استعمال سلطان المال المرتبط بسلطان
الملك فيما يحتاج إليه في تعبيد العبيد لربّ العبيد ، وجعل المال وسيلةََ إلى
إصلاح دنيا الناس والقيام على أمر دينهم .. وقد يكون المرء صالحا في نفسه له ألفة
معينة ، ولكن دون مادة تبلغهم المقصود لا يستطيعون الوصول إلى الغاية ولا تكون
صحبتهم إلا متعةََ للنفس .. وقد يكون المال والعصبة مع عدم صلاح النفس فلا يكون
حينئذ إلا طغيانا مبيرا ، وقد تكون الألفة مع العدمة وعدم صلاح النفس فلا تكون إلا
صعلكة وشرودا عن الحياة .. فكانت هذه الأمور مستوفاة في قصة يوسف عليه السلام
عبرةََ لمن أراد أن يكونَ له حظّ من سير الصالحين المصلحين ذوي الصحب والعدّة ..
أبو المعالي الظاهري
لا تتردد اترك تعليقا أو استفسارا أو شاركنا رأيك
إرسال تعليق