الحياةُ والموت / سورة البقرة / تقلّبات - اعرف

 

#في_ظِلال_رمضان ..1

الحياةُ والموت / سورة البقرة / تقلّبات ..

   


عندما نقرأ سورةَ البقرة نجد فيها الحياة والموت على صور عدة ، تتقلب فيها بحسب أنواع تعلق الحياة بالموت أو الموت بالحياة ، والموت كما أخبرنا الله عنها هي موتة واحدة ، والحياة في الدنيا أنواع يعيشها المرء ، والحياة في الآخرة هي الحيوان لو كنّا نعقل ..

وقد جاء تعلق الحياة بالموت في أعلى صوره في سورة البقرة ، وهي صورة الرؤية البصرية العينية في بعث الأموات ، كما أخبرنا الله تعالى عن بقرة بني إسرائيل ، وأخبرنا عن الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم موتوا ثم أحياهم ، و أخبرنا عن عزير عليه السلام أن الله أحياه بعد أن أماته مئة عام ثم بعثه وأحيا  له حماره ، وأخبرنا كيف أحيا الله لنبيه خليل الرحمن إبراهيم تلك الطيور وأخبرنا عن الذين قالوا لموسى لن نومن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ثم بعثهم الله من بعد موتهم لعلهم يشكرون .. كلُّ هذه براهينُ تراها العين على أن تعلق الحياة بالموت إنما هو بأمر الله وقدرته على كلُّ شيء ..

وجاء تعلق الموت بالحياةِ في صورةِ أخرى ، يكون الموتُ فيها سببا في الحياة ، وذلك في شأن القصاص الذي أخبرنا الله تعالى عنه أن لنا في القصاص حياة ، وقد كان الأمر في الجاهلية على صورة تشبه ما نراه اليومَ من هوانِ الدماء والأرواح واسترخاصها فجاء الموت ليعلي من شأن الحياة لينظر كل من يقتلُ غيره مصرَعه قبل أن يقدم على قتل غيره ، وهل يرى الرجل مصرعه ثمَّ يقدم عليه ؟ ... و لكم في القصاص حياة ..

وجاء تعلق الحياة والموت في الحياة في الدنيا في أعلى صوره التي تجعل الناس فريقين أحياء وأمواتا ، إذ مدار الحياة الدنيا على حياة القلوب ، فأخبرنا الله أن الناس إما أهل إيمان وإما أهل كفر وإما أهل نفاق ، فأهل الإيمان هم الذين أحيا الله قلوبهم بأولّ أمر جاء في القرآن .. يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون .. ثمَّ جاءت التفاصيل التي بها تحيا القلوب من الصلوات وفرض الزكوات الحث على الصدقات ، كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة ، والصوم الذي به تحيا قلوب الناس بعد مواتها والحج الذي بجعل للناس حياةََ لا يعرفها إلا من حجّ .. وحياة القلوب بحسن المعاملة مع الناس في النكاح والطلاق والبيوع والمداينة ..

أما أهل الكفر والنفاق ففي قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ، وقد ماتت قلوبهم فهم في الأموات وإن كانوا أحياء صمُُّ بكم عميٌٌ فهم لا يهتدون ، وقد قصّ الله علينا من قسوة قلوب بني إسرائيل لنرى حياةَ هذه الأمة المرحومة التي وكَل الله أهلَها إلى الإيمان بالغيب ..الذين يومنون بالغيب .. وبنو إسرائيل أراهم الله الآيات جهرا حتى رأوا إحياء الأموات عيانا ، ومع ذلك قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة.. أما هذه الأمة المرحومة فعندها تعلقُ حياة القلوب بالحياة الحقيقة على الإيمان بالغيب الذي هو مادة الحياة الحقيقة ، ورغم أنّهم لم يرو بعث الموتى وانفلاق البحر ولم يشهدوا كلام الله في الطور .. إلأ أن فيهم المؤمنين الأولياء الأتقياء الذين يقومون في هذه الأمة مقامَ أنبياء بني إسرائيلَ في أُممهم ..

وجاء بيان حقيقة الموتِ في السورة على عدة أنحاء ، فمنها الموت الذي هو العدم قبل الوجود ، كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم .. كنتم أمواتا في الأصلاب ثم أحياكم للوجود ، وكل عدم ميت ، وكل من نزّل نفسه منزلة العدم فهو ميّت يحتاج إلى إحياء .. ومنها الموت الذي هو الشهادة في سبيل الله لتكون الشهادة هي عين الحياة ، ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ، وهناك موت من نوع آخر وهو مولاة الطواغيت والظلمة ، ليكون موتا في بحر الظلمات التي لا قرار لها ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، وأي موتٍِ أشد من الخروج من النور إلى الظلام ؟ ..

وهناكَ نوعُُ لطيفٌ من إحياء الموات ، وهو التحول من حال إلى حال فيكون أثر التحول بمزلة إحياء ميت بعد أن استأيس من حياته ، وقد جاء في السورة الخَبر عن التحول عن القبلة إلى المسجد الأقصى ، فصارت إلى المسجد الحرام فكأنها بعث حياةِِ أخرى يرى الله منه تقلَّب وجهه في السماء .. وربَّ تحولِِّ من حالِِ إلى حالِِ يكون هو عينَ بعث ميتِِ ونفخ الروح فيه بعد أن كان جدثا ..وجاء التحولُ من حجّ الجاهلية في ترك السعي بين الصفا والمروة بإحيائه ..إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما .. وإحياء ركنِ الحج بالتحول إليه بعد أن تحول الناس عنه هة بعث حياةِِ في الحج بعد أن كان ميتا ..ومثله الحياة التي يبعثها  تحول الحال من العافية إلى البلايا والمصائب وهي إحياء روح بالاسترجاع والصبر فعلَ ..الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمه وأولئك هم المهتدون .. 

أبو المعالي الظاهري

Plus récente Plus ancienne